أنتِ شرسة…. كالنمور، هذا ما همست لي به أمي، وهي ترفع عينيها عن حافة مجلى الغسيل وراحت تحدق فيّ بشي من الأسى. صوتها عطوف هامس كما هو ولكنه مكسور كصوت الزجاج حين يسحق تحت الأقدام.
أحيانًا كثيرة أكاد أجزم بأنني وُلدت بفم مليء بالشوك. أنزف كما الأشجار كلما حاولت أن أتحدث عن نفسي. وكلما حاولت أن أهدأ وأصمت كانت أنيابي تكبر. فتشعر أمي بتلك الحمى السقيمة التي تأكلني. تمد يدها وتلمس وجهي كما لو أنها تلمس قناعًا، كانت خائفة أن تسقطه يدها فترى ما يختبئ تحته. تقول لي بشيء من الوجل :”كوني لينة كما الماء.” لكنني كما النار. أحرق ملاءتي، أحرق دفاتري، أحرق فتاوي الصبر والطاعة، أحرق حتى أفكاري وأسماء الفصول التي لا تحتضن الثورة.
النساء في عائلتي يخبئن صراخهن في أدراج المطبخ، في فناجين الشاي والقهوة، في صحون الملامين المزركشة ونشرات الأخبار وتحت مفارش الكتان المزخرفة. أما أنا، فأخيط الصراخ على أكمامي وأغزل التمرد في جديلتي.
وكل ليلة، حين تنام أمي أتحول إلى شيء آخر لا استطيع تعريفه، طائر بلا منقار. أنثى بلا مهد. نجمة تحترق في سماء ليلة مظلمة. وبمخالب نازفة أنقش اسمي على الجدران القديمة، أفتش عن وجهي، عن ظل يشبهني، وأتدرع بشراسة النمور لأنها الشيء الوحيد الذي قد ينقذني من أن لا أُمحى.
قصة قصيرة، ورغم أن القصة مليئة بالرموز وسأترك التحليل لكم ولكن حابه أشرح حاجه وحده وهي الأب هنا
هو ليس مجرد شخصية ثانوية ، بل هو تجسيد لآلة باردة تكرر ذاتها بلا توقف كما تفعل وسائل الإعلام عندما تحول الموت إلى 'أرقام'، والألم إلى خبر عاجل. الأب هو بمثابة الصوت الذي فقد معناه لكثرة تكراره، هو الوجه الذي لم يعد يعكس أي إحساس لأنه اعتاد رؤية الخراب دون أن يطرف له جفن. وفي عالم تُستهلك فيه الكوارث كما يُستهلك أي منتج آخر، يصبح وقع الفاجعة مجرد خلفية باهتة للحياة اليومية. اسمحوا لي ولكن هذا هو الواقع، واقع لا يحتاج إلى تأويل، لأنه يتجلى أمامي بوضوح، في كل شاشة، في كل عنوان، في كل نظرة لامبالية تمر على المأساة كما يمر المرء على إعلان مكرر.
لا شيء يتطلب الوحدة والعزلة بقدر ما تتطلبه القراءة، ومن الجلي أن هذه العزلة ليست قسرية وليست فارغة، بل على العكس إنها تشكّل امتلاءً ثقيلاً بما يفيض عن العالم. والقارئ، مثل الكاتب بحاجة إلى غرفة خاصة كما قالت فرجينيا وولف، وإلى فسحة من الصمت لأن الكلمات حينها تكتسب بُعدًا آخر؛ ووحده القارئ سيدرك أنه لا جنون في القول إن الكلمات تتحرر من الصفحة وتسبح في الفراغ من حوله.
أن تقرأ يعني أن تنفصل عن العالم دون أن تهجره حقًا. بالنسبة لي أنا شخصيًا، منحتني القراءة حياة ثانية، أو ربما حيوات لا متناهية، جردتني بكل براءة من المكان والزمان، وتركتني في حالة من التواجد والانعدام، من القرب والبعد عن كل شيء.
ولكن أيها الطبيب الأحمق، تسألني: ما الخطب؟
وما أدراني؟ أنا امرأة تجيد الترتيب. ولو كنت أدري لرتبت فورًا تلك الفوضى التي تموج داخل رأسي و لوضعت لها حدودًا كما تضع المدن حدودها.
أنظر حولي: إن الناس يمشون، يتكلمون، يأكلون، ينامون، يلهون، كما لو أن الأمور تسير وفق منطق واضح ومحدد، كما لو أن العالم ليس مجرد فوضى كبرى متنكرة بسذاجة في هيئة نظام هش.
قلبي يؤلمني ورأسي يدق طوال الوقت، أسوأ مافي الأمر أنني أعرف الحقيقة، ومع ذلك، لا أستطيع إلا أن أعيش كما لو أنني لم
أعرفها.
أسمع ضجيج أفكاري، طنين، يشبه طنين نحلة محاصرة داخل زجاجة، لا مخرج لها، أهذا ما تريد سماعه؟ أنني أشعر… أشعر أنني زنزانة أيها الطبيب، أعيش داخل جسدي وكأنه قبر مفتوح. أنني, رغم محاولاتي الجامحة لترتيب الأشياء أعلم يقينًا أنني هنا في الداخل، أتحلل وأذوب ببطء، وأن هذا التنميق ليس إلا ستارًا هشًا أمام تلك الفوضى التي تزحف نحوي.
لكن لا تقلق، سأجيبك أيها الطبيب الساذج على سؤالك الصعب هذا. سأجيبك حتمًا كالفتاة المهذبة التي اعتدت عليها: لا شيء، لا شيء على الإطلاق.
الوحش، والمنديل، وأنا.
قبل عدة أيام، فتحتُ الصندوق المخبوء أسفل السرير القديم في غرفتي القديمة. حيث كان هناك صندوق خشبي عتيق لكنه صلب، وكان مغطى بالرمال، كقبور العصافير. وعندما لمحته، بدا كما لو أنه بانتظاري، كأنه يعرف أنني لن أستطيع مقاومة نبشه. زحفتُ ببطء، مقتربةً منه، وفي طريقي إليه قابلت الوحش أسفل السرير، مجرد جثة. العناكب نسجت خيوطها حوله، الحشرات حفرت طريقها عبر الجلد المتآكل، وكان النمل الأحمر يسير فوقه في صفوفٍ عدة، كأنه يؤدي طقسًا مهمًا. وفكرت حينها أن لهذا الوحش الميت حضور أكثر مما ينبغي.
مددتُ يدي وجلستُ بالقرب من الجثة الهامدة. وضعتُ الصندوق على حجري وفتحته على مهل، خشية أن يستيقظ الوحش.
أخرجتُ المنديل الأحمر الغاني. كان هذا جرحي القديم، يا أبي. لا يزال ينزف، لا يزال نديًا، لا يزال طازجًا ومتقرحًا وعميقًا. لم أشفَ منك بعد، يا أبي.
انتشرت رائحة العتق والعدم والدم في المكان، رائحة مألوفة تشبه رائحة الليل حين يتعفن ببطء تحت جفون الأرق.
لمسته برقة، فشعرتُ بوخز دافئ تحت جلدي، وتحرك الوحش بخفة، كما تتحرك الأشباح. تجاهلته، وتجاهلتُ ذلك الألم الذي ينبض في صدري. وأعرف أن الجروح لا تختفي عندما نتجاهلها، إنها تبقى رغم ذلك، تتحرك، تتوسع، تتبعك في الطرق، تحتسي معك فناجين القهوة، تقرأ المجلات، تتسلل إلى أحلامك، ثم تستيقظ قبلك في الصباح، وتجلس على حافة السرير المبعثر بانتظارك.
تمنيتُ لو كان في جسدي جرح آخر، أبٌ آخر. تمنيتُ لو أنك كنتَ أقل قسوة… أو ربما، ربما لو كنتَ أكثر قسوة، أكثر شراسة، حتى يقتلني الرفض تمامًا ولا يتركني هكذا، نصف ميتة، نصف مشتعلة، نصف ممزقة بين عالمين.
أفكر في إبليس أحيانًا، يا أبي، ليس في صورته الملعونة، بل كروحٍ وحيدة، كروحٍ تائهة في الفراغ الصامت بعد أن أُغلقت أبواب الانتماء في وجهه. ماذا لو لم يكن غاضبًا بقدر ما كان حزينًا؟ ماذا لو أنه توقف عن التآمر وحاول أن يتذكر ذاته القديمة؟
لم أشفَ منك، يا أبي، ولا أظنني سأشفى. هناك جراح لا تندمل، لأنها تصبح نحن، تتسرب إلى جلودنا وعظامنا، إلى صوتنا حين ننادي، إلى أطراف أصابعنا حين نلمس الأشياء، إلى قلوبنا حين نحاول، بكل سخافة، أن نقع في الحب، إلى هويتنا حين نحاول أن ننتمي، إلى الأحلام التي لا تأتي.
الآن، ها أنا ذا مرة أخرى. أعيد المنديل إلى الصندوق، والصندوق إلى الوحش الذي يحرسه. أعيد كل شيء إلى عهده، كل شيء كما كان منذ أن غادرتَ أنت. كما لو أن الذاكرة يمكن طيّها، كما لو أن الجراح تركن حقًا أسفل السرير.
يحدث أحيانًا أن يجد الإنسان نفسه هامشيًا في قصة لا تخصه تمامًا، ليس عشيقًا، ليس محبوبًا، ليس صديقًا، ولا غريبًا بالكامل، بل ذلك "الخيار الآخر" الذي لا يُختار إلا عندما تستنفد الاحتمالات، ذلك الطرف الثالث الذي لا يحضر إلا كضرورة مؤقتة ولا يُلتفت إليه إلا عند الحاجة.
يُفرض على بعض الاشخاص أن يعيشوا في الظل أحيانًا، ليس لأنهم أرادوا ذلك بل لأنهم وضعوا هناك عنوة. لا أحد سيختار أن يكون بديل، ولكن الإنسان يلقى في مثل هذه الأدوار كما يُلقى النرد.
وفي الحب شيء يشبه الوجود، يعذبك حين تدرك أن دورك ليس محوريًا، وأنك لم تمنح وسام البطولة هنا، بل كُتب عليك بسخط أن تعيش في الحواف، وأن تتزامن مع التوقيت الخاطىء.
ولكن، أليس في ذلك حكمة ما؟ أن تكون الطرف الثالث يعني أنك خارج اللعبة، خارج الحسابات، بعيد عن الاحتمالات والحتميات التي تصنع من الحب قيدًا ثقيلاً، أنت لست مضطرًا إلى أن تحمي شيء أو تخشى انهياره. أنت لست مجبرًا على دفع عجلة البدايات، ولا على تحمل عبء النهايات.
لا تُطَالب بشيء، لا تعود ولا تُعَاتب، أن تكون في المشهد دون أن يتذكر أحد ذلك تمامًا، عابر، غريب، ولا بأس في ذلك. لأنه وببساطة حين يرتب الحب أدواره، لا يعترف بالعدالة.
لا داعي لشرب البحر كله لتدرك أنه مالح. حقيقة بسيطة، لكنها تميط الستار عن المفهوم الكلي للتجارب الإنسانية عمومًا. هناك تجارب تلوح بالفشل منذ بدايتها ولكننا نولج فيها فيصيبنا شيء من الندم والهزيمة، تجعلنا نتمنى لو استطعنا انتزاعها من داخلنا كما لو أنها لم تحدث. ولكن هل تعني هذه المرارة أنه يجب علينا الابتعاد عن البحر تمامًا، فقط لأن مرارته تعذبنا؟
بالنسبة لي، لا. فالتجربة، حتى وإن كانت قاسية ومؤلمة، تظل ضرورية. ومن منظور آخر، يمكننا القول إنه لا بد أن نتذوق مرارة البحر حتى نفهم عذوبة الأنهار أكثر. لكن قبل الاستفاضة في الحديث، لماذا نرى البحر مالحًا والنهر عذبًا؟ ولماذا تبدو بعض التجارب قاسية بينما تبدو أخرى لطيفة؟
من الناحية العلمية، البحر مالح لأنه يحمل في جوفه كل ما تجرفه الأنهار من شوائب ورواسب (تراكم).إنه المستودع الذي تصب فيه الأنهار، فيصبح بذلك- البحر- السبب الخفي لعذوبتها وتكون الأنهار أحد أسباب مرارته. أما الأنهار، فتظل عذبة لأنها متجددة، لا تتوقف عن الحركة، ولا تتشبث بما يعبر من خلالها.
وإذا نظرنا إلى التجربة الإنسانية من هذا المنظور، نجد أن التجارب القاسية تتراكم وتترابط مع بعضها البعض ولكنها تظل جزء من نسيج تكوين الانسان. شيء يشبه الغربلة التي تميز بين ما يجب أن يبقى وما يجب أن يذهب.
وهذا لا يعني أن علينا أن نغرق في البحر لنقدّر عذوبة النهر. فالحكمة ليست في الرفض التام ولا في التسليم المطلق، بل في الفهم. ومعرفة أن البحر سيظل مالحًا وأن النهر رغم حلاوته ينتهي فيه.
قصيدتي الأولى "بصحبة الشيطان" وربما الأخيرة…. لست أعلم
Читать полностью…"الشر يرتكبه أناس ليس لديهم أي دافع، ولا قناعات، وهم ليسوا سيئين." (تفاهة الشر)
آه، كم عذبني كلامك هذا يا أرندت. فكرت فيه كثيرًا قبل أن أتفوّه بأي كلمة، بل حتى إنني صمت يومًا كاملًا. لم تقفز قناعاتي لتغطي المشهد كالمعتاد، قلّبت الفكرة مرارًا وتكرارًا داخل عقلي. هل الشرّ فعلًا تافه إلى هذا الحد؟ وهل مقترفوه أناس لم يدركوا بعد إنسانيتهم؟
هناك الكثير مما تعرفينه أنت وأجهله أنا، ولكن هناك شيء في فكرتك يثير القلق، وهو أن الشر لا يتطلب وحشية، بل يتطلب الفراغ، غياب العقل، استسلامًا وحيادًا مخيفًا. تقولين إنه لا ينشأ من كراهية أو عنف "متعمد"، بل يأتي فقط من الامتثال الأعمى.
ألا ترين، يا حنة، أن هذا الحياد بحد ذاته جريمة؟ أن اللاوعي الذي تتحدثين عنه، هذا الانقياد الساذج، ليس مجرد "تفاهة"، بل هو خيانة للإنسان، للعقل؟ أليس من يرتكب الشر بلا وعي، بلا صراع داخلي، أكثر خطورة ممن يختار الشر عن وعي؟
وبشكل ما فإنني أفهم أن الإنسان قد يكون أداة للدمار دون أن يكون وحشًا، لكني أجد نفسي في مواجهة سؤال لم تفصّلي فيه كما يجب: هل الشر فعل بحد ذاته؟ فعندما تصفين أولئك الذين يرتكبون الفظائع دون وعي، دون قناعة، دون حتى لحظة تأمل، فإنك ربما تحاولي أن تقدمي لنا صورة الإنسان الحديث الذي فقد إرادته، ذلك الإنسان الذي تحوّل إلى ترس في آلة ضخمة.
ولكن دعيني أخبرك، ورغم وضاعة رأيي عند عقل منير مثل عقلك، يا حنة: لا يوجد شر "تافه"، بل يوجد بشر "تافهون"، وهم أولئك الذين لا يفكرون، ولا يقررون، ولا يختارون. إنهم الذين يهربون من مسؤولية خلق القيم. هم ليسوا فقط أداة للشر، بل هم أيضًا الإنكار الحيّ للحياة، للخطر، للتمرّد، لما يجعل الإنسان إنسانًا.
لقد تحدثتِ عن الشر وكأنه ينشأ عن غياب التفكير، لكن أليس غياب التفكير نفسه نابعًا من شيء أكبر؟ من غياب القوة، غياب الشجاعة، غياب الإنسان نفسه؟ الإنسان الذي يكتفي بأن يكون مجرد منفّذ، مجرد قطعة شطرنج، هو إنسان ضعيف، ويستحق أن يُسحق تحت ثقل أفعاله. إذن، فإن غياب التفكير جريمة عظيمة، وليس عذرًا لها.
ما يجب أن توجّهي إليه إصبع الاتهام، يا حنة، ليس الشر اللامفكر، بل الإنسان اللامريد، ذلك الذي اختار أن يكون لا شيء، أن يكون تابعًا، أن لا يكون سيدًا حتى على ذاته.
إن التفاهة ليست تبريرًا، ولا يمكننا أن نقول عن شخص ارتكب الشر إنه لم يكن شريرًا لأنه لم يفكر. التفكير ذاته هو مسؤوليتنا الأولى. في النهاية، لا شيء يبرر الجريمة، حتى الغباء.
"مهما كان النص عظيمًا، إذا قرأه عقل صغير، يصبح النص صغيرًا." — أدونيس
يذكرني النص أعلاه بإحدى أفكار هانز جورج غادامير في "الهرمنيوطيقا" حيث يرى أن الفهم ليس مجرد استرجاع لنية المؤلف، بل هو عملية تفاعل بين النص والقارئ عبر الزمن.
المحتوى الفني يمكن أن يكون عظيمًا أو تافهًا وفقًا لمن يتلقاه. الفن كيان مفتوح، وليس مغلقًا، يتعرض للتأويل والتفسير حسب العقلية التي تتناوله، ولذلك فهو موضوع حيوي للغاية، قابل للربط والتفكيك. إن العلاقة بين النص والقارئ تتجاوز العلاقة بين النص والكاتب في كثير من الجوانب. وهنا تكمن أهمية القارئ بوصفه مشاركًا مهمًا وفعالًا في بناء المعنى أو حتى هدمه كليًا. وبهذا يمكننا القول إن استقبال الفن من قبل الآخر هو إحدى أهم خطواته، بل إن العمل الفني، في كثير من الأحيان، لا يكتمل إلا في لحظة تلقيه وتأويله من قبل الأخرين .
إن تطور المعرفة لدينا يعكس تصورنا وفهمنا للعالم. فالفنان ينقل شيئًا من تجربته الإنسانية والوجودية، والقارئ يستقبلها حسب تجاربه وأحواله هو. ولكن هل يمكننا، من خلال هذا المنظور، أن نطلق على الفن بأنه مادة بلا يقين؟
الفلسفة والفن يتقدمان بشكل أفقي، حيث لا يتم استبدال الأفكار أو الاتجاهات السابقة كليًا، بل تُبنى كل مرحلة على التي سبقتها وتهيئة الأرضية للتي تليها مما يمهد الطريق لظهور تيارات جديدة. ولذا فإن دراسة تاريخ الفن والفلسفة ضرورية جدًا لبناء وربط سلسلة فنية أو فلسفية جديدة سليمة، أو حتى لفهم التفاوت التكميلي لكلتا الحركتين. لذلك، من الصعب تكوين أي فهم شامل للبنية الجديدة دون أخذ لمحة من البنية المفاهيمية القديمة، التي قامت وستقوم عليها الحركات الفكرية والجمالية.
وليس المقصود هنا بالتاريخ دراسته بشكل سطحي أو متفرق، يقتصر على الأحداث والأشخاص، بل المقصود هنا هو تسليط الضوء على المسار الذي تتجلى فيه الكينونة عبر الفكر والفن، دون السقوط في التحوير السردي والتحليلي أو الانغماس في الهوامش غير المؤثرة. وإذا أراد المرء أن يقرأ التاريخ قراءة سليمة، فعليه أن يقرأ تلك الأفكار التي انتقلت عبره، والأساليب التي تم نقلها من خلاله مع إدراك أن التاريخ لا يُنقل بحيادية مطلقة، بل يخضع لضرورات اجتماعية وسياسية تؤثر في تشكيله وإعادة إنتاجه. ولأن هذه الدراسة لا تختص بالحقيقة وتمظهراتها التاريخية. ولا بوضع الحقيقة ضمن تصور زمني متسلسل بل كأسلوب فهم لجوهرها.
الزمن لا يغيّر الماضي. لا يعيد تشكيله ولا يمنحه فرصة أخرى. وإذا تحرّينا الدقة، فالماضي لا يعيد نفسه أبدًا، وإنما يرفض أن يُمحى، وهذه هي مأساة التاريخ وسرّ مخاوفه.
علاقتنا بالماضي معقدة وقهرية بعض الشيء؛ إذ يتلاشى للحظات، ثم يهوي علينا فجأة كحجر في ماء ساكن. يحضر حين لا ندعوه، ويختفي حين نبحث عنه.
أما عني أنا، فقد خبرت الزمن وعرفت حيله؛ هو لا يداوي شيئًا، بل يتظاهر بذلك. يعطينا الفرص لنمضي قدمًا، ثم يسحبنا فجأة إلى حيث لا نريد.
ولهذا قد تجدني أحيانًا أرتجف تحت وطأة الماضي. أحنّ، أعود، ألفّ حوله كالدرويش، متخمة بحضرته، ثم أهرب. لكنني رغم كل ذلك، لا أصطدم به كثيرًا، لأنني – ويا للمفارقة – لا أجيد البقاء فيه. أو ربما، رغم هواجسي، أحترم إيقاع الزمن الذي يواصل المضيّ قدمًا.
فها أنا ذا، محاصرة وعالقة على حافة هذا التيه الرمادي الممتد، مشنوقة، يتأرجح جسدي في منتصف الممر الطويل. لا أحد يناديني من الخلف، ولا أحد ينتظرني في الأمام. فلستُ أنا ابنة الأمس تمامًا، ولا امرأة الغد بعد.
هذه الأغنية البديعة الآسرة , تقيس مدى عِظَم وضخامة وزن كلمة 'لو' بين ضآلة أيدينا المرتعشة المتزلفة التي نمدها من حين لآخر، راجين عطية من سخاء الكون المترامي.
"لو كنت أسافر في خيالي"
في تلك اللحظة، وأنا أحدق في السماء وأفكر فيك أنت وحدك، أدركت شيئًا: وهو أن الحياة لا تحتاج إلى أن تكون معقدة لتكون حقيقية. كل ما تحتاجه هو أن تعاش، بلا مقاومة، بلا أسئلة زائدة.
Читать полностью…ولكني هنا أتشاطر معكِ الألم، قلت للسيدة التي في المرآة. يكون الوجع أقل لوعة عندما يكون هناك شخص آخر في المشهد، نحن امرأتان وهذا الجرح واحد. كررت بتأنٍ
حاولت أن أبلع بعضًا من تلك العبرات التي كانت تجثم على فمي "غير أن كلانا يعترينا الخوف” تحدثت المرأة في المرآة أخيرًا، تبرمت وبدت لي كأنها لا ترغب في لعب الدور الذي كلفتها به. رغبت حينها بالبكاء، ولكنها بكت قبلي وتنهدت كثيرًا، ثم خلعت العقد، “إنه يخنقني، لا أريده” شكت بتوجس.
ابتلعت ريقي ورغبة عارمة بالصياح انتابتني. أردت أن أوبخها وأدينها، لكن شيئًا فيّ كان يعرف أنه يجب عليّ استمالتها قدر المستطاع. كانت ناضجة للغاية، ولكن في تلك اللحظة قد تهالكت أبعاد الزمان عندها وظهرت وكأنها قد عادت إلى أيام طفولتها، تلك الأيام التي لم تكن تعرف كيف تواجه فيها الألم.
مددت يدي بحذر، وسرت نحوها بقلق أقرب المسافة بيننا. العقود الضيقة تناسبك أكثر، شرحت وأنا أقرب أصابعي نحو عنقها وتوقفت عندما انتفضت من حركة يدي المفاجئة. تنهدت بتعب وكأن الألم يتسرب من أطراف أصابعي، كما لو أنني أقدم جزءًا مني في سبيل أن أخفف من وطأتها لعلي أريحها.
سأعطيك الجزء الصغير منه، سأخذ أنا الجزء الأكبر. جلدي غليظ يتحمل الألم. أفهم أنك لا ذنب لك في كل ذلك لكن يجب عليك مساعدتي، حاولت طمأنتها وأنا أعتصر يدي نحوها. نظرت إليها بتجهم.
ورأيتها من تحت أهدابي، تتراجع، وترفض كل شيء بشراسة. بادلتني النظر بعينيها الجاحظتين، تبحث عن شيء فيّ، شيء يشبهها، أو ربما شيء يشبه الفراغ الذي يملأنا. أو هذا الصمت الذي يتدفق بيننا.
يا له من صمتٌ ثقيل يصعب تحريكه، لم أجرؤ على التحدث، كلانا تعرف أن هذا الجرح الذي نتبادل حمله سيظل ينمو، وسنبقى قابعتين بصدورنا العارية تحت رحمته.
ولكني، أدرك شيئًا، بسيطًا، وتمنيت أن تفهمه هي دون أن أخبرها. لا يوجد شيء مشترك بيننا سوى هذا الألم الذي أصر على تقاسمه، وكلما اقتربنا منه، ابتعدنا عن أنفسنا أكثر. وأصبح هذا الألم، الذي لا نجرؤ على التخلص منه، هو الرابط الوحيد بيننا وبين العالم.
أميطُ السِّتار قليلًا بيديَّ الباردتين، كأيادي الجثث، وأطلُّ من خلف النافذة وأحدق قليلاً في الأرجاء فأرى خمسة جنود يُمشِّطون الحيَّ مرةً أخرى، كانت خطواتهم المنتظمة تضرب الأرض كإيقاعِ نبضِ مريض يتردد في الهواء الكثيف، المغلف بالصمت. إنها الساعة الثالثة والنصف صباحًا، والعالم متخشب ومشدود كوترٍ مشرفٍ على الانقطاع، وكانت عيناي تأبيان الاستسلام للنعاس، رغم الإعياء الذي ينهش جسدي.
وقفت هناك، عند النافذة، بهيئتي المتعبة: عينان غائرتان، فمٌ مليء بالحديث، وأكتافٌ هابطة للأسفل.
يقول الناس إن الحرب على وشك أن تنتهي، وفور انتشار الخبر في الحي، فاحت رائحة احتفال مصطنع وكاذب. وكانت أمي هي الأخرى، قد صدّقت ذلك تمامًا، بل حتى إنها خرجت عشية البارحة وعادت محملة بأكياس الطحين والسكر، وقالت إنها ستخبز الكعك احتفالًا بهذه البشارة. ولكن أبي ظلَّ عابس الوجه، شارد الذهن، وكأن هذا الحدث لا يعنيه تمامًا. لم ينبس ببنت شفة لكن ملامحه المنقبضة كانت توحي بضجر شديد. أذكر أنه كان أكثر حماسة عندما كانت الحرب في أوجها، يقف في وسط المنزل، يسرد علينا أسماء القتلى وكأنه يروي فصولًا من حكايةٍ مروِّعة، حكاية اعتدناها حتى بات وقع الأسماء الجديدة يمرُّ على مسامعنا بلا رجفة، بلا حتى شعور بالأسى.
تزحزحت عن النافذة، وعدتُ إلى سريري الذي تناثرت فوقه الأوراق المبعثرة كأشلاء الجثث المجهولة الهوية المرمية على قارعة الطريق. أزحتُ بعضها جانبًا، ورقدت على ظهري، أحدِّق في السقف بعينين مثقلتين بالحزن.
لقد أخبرني أنه سيعود فور انتهاء الحرب، أو حتى قبل ذلك. كنت أعضُّ على شفتي وأصكُّ أسناني ببعضها في كل مرة يعلن فيها أبي قائمة موتى اليوم، ثم أتنهد بعمق عندما لا يُذكر اسمه. أحيانًا كان الخوف يلتهمني حتى أشعر بأنني على وشك أن أفقد صوابي، حتى إنني تمنيتُ للحظة أن أسمع اسمه فقط كي أتحرر من هذه الدوامة التي لا تنتهي.
لم تصلني منه رسالة واحدة منذ عشرة أشهر. وحين سألتُ أحد العائدين من الحدود، أخبروني أنه أُرسل نحو الشرق، ومنذ ذلك الحين لم يسمع أحدٌ عنه شيئًا. الشرق… يا إلهي! لقد ابتلعه الشرق اللعين، ابتلعته تلك الأرض المجهولة التي لا تُعيد من يأوون إليها.
قطع حبل أفكاري صوتُ طرقٍ خفيف، لكنه واضح، فقفزتُ من مكاني، وتيار كهربائي بارد مرَّ في عمودي الفقري. لحظةُ تردد قصيرة شلَّت أطرافي، قبل أن أندفع نحو الباب بعجلة. مدت يدي المرتعشة نحو المقبض، لكنني لم أجرؤ على فتحه فورًا. أما في الخارج، فقد كان الصمت كثيفًا، له فمًا مفتوحًا على اتساعه، على وشك ابتلاعي.
تنهدتُ ببطء، ثم دفعتُ الباب. نظرت بترقب وتدفق الدم إلى رأسي بكثافة، ولكن لم يكن يوجد أي أحد في الخارج، كان الممر فارغًا.
تنهدتُ مرة أخرى وعدتُ أدراجي، كانت أنفاسي متلاحقة، وقلبي يدقُّ بجنون. جلستُ على حافة السرير، أراقب الظلال الطويلة التي ترقص على الجدران بفعل ضوء المصباح الخافت القادم من الخارج.
ثم لاحظتُ ذلك. النافذة التي كنتُ أقف عندها قبل قليل… كانت مفتوحة.
لم أفتحها. لا أذكر أنني فعلت. اقتربت بحذر، حدَّقت في الشارع. كان الجنود قد ابتعدوا، والمكان ساكنًا كما كان. كل شيء ثابت كما كان.
لكن شيئًا ما تغيّر، شيء ما تغيّر في هذا العالم خلال هذه الثواني. عند الزاوية، على الأرض الرطبة، كانت هناك آثارُ أقدام جديدة.
وقفت أمام النافذة المفتوحة. يتسلل هواء منتصف الليل الساكن كأيدٍ باردة تتحسس وجهي. وراحت المدينة تغط في صمت مريح وقداسي. تأملت السيجارة المشتعلة بين أصابعي، تتحلل ببطء ويتراقص دخانها متمايلًا نحو فراغ الفناء الخلفي.
لم أكن أدخن من قبل. ولكني صرت أدخنها مؤخرًا كلما شعرت بأن هذا القلق يفيض عن احتمالي.
أفكر... فكرت كثيرًا، في كل شيء. حتى في اللاشيء. في مستقبلي ككاتبة. هل هذا ما أريده؟ أم أنني فقط لدي ما أقوله. أشعر ببعض القلق، لو عرفت أمي أنني أصبحت أدخن ستصاب بخيبة أمل كبيرة، لا أخشى خذلانها. ولكني أكره أن أكون سببًا في تعاستها حتى ولو قليلاً.
ربما أريد أن أكون كاتبة لأنني أشعر أن هنالك شيء يصرخ في داخلي. بل هنالك أشياء كثيرة في رأسي ترفض أن تموت بصمت. تطالب بكل عنفوان أن تسرد، أن تقال، أن تُحكى، حتى ولو لجدار غرفتي أو لقطتي الصغيرة. لكن، ماذا بعد؟ الشهرة لست أريدها. لا أحبها ولا حتى بمختلف تمظهراتها الباهتة. تشعرني بالغثيان. سيعرفني كثير من الأشخاص الذين لم أقابلهم قط. سيتحدثون بلغتي. سيضعون أفكارهم في فمي كما فعلوا مع نيتشه أو سبينوزا، فأصبح اسمًا مجردًا ضمن كلمات لم أنطقها، وآراء لم أتبنها.
ولكن مهلاً، لماذا لم أقابل من قبل شخصًا نبيلًا وصادقًا بحق. لماذا يهوى الناس الكذب والتملق والتزييف؟ لعلي أبالغ في صدقي، هل أكون خاطئة إن كنت صادقة أكثر مما ينبغي؟ لا، أنا لست الطرف المخطىء هنا. بل العالم. هذا العالم المريض الذي يبتسم لك بينما يدس خنجرًا حادًا في يده.
خطر ميكافيلي في ذهني حينها، يريد أن يقول شيئًا، لعله يريد أن يسخر مني. عرفت أنه سيهجوني أنا ويمتدحهم هم. يقول هناك شيء ماكر في الكذب.
الماكرون وحدهم من صنعوا التاريخ،
أما الصدق؟ إن الصدق للخراف. امتعض وجهي، ولكني لم أكن خروفًا ولم أكن مخدوعة.
آهه، مكيافيلي أيها النفعي الأحمق، أنا أعرف أكثر منك ما الذي يتطلبه هذا العالم. أطفأت سيجارتي بضجر وأنا أفكر حينها بإنهاء هذا المونولوج.
أولئك الماكرون المخادعون. أين هم الآن؟ أين قصورهم وأين هي مؤمراتهم؟ لقد عبر التاريخ فوقهم جميعًا، طمس اسمائهم، تم نفيهم إلى بقاع العدم السرمدية، وبقيت كلماتك أنت يا مكيافيلي. نعم، بقيت. لأن فيها شيئًا من الحقيقة. الحقيقة التي قلتها أنت. يا للمفارقة، لقد أصحبت صادقًا رغمًا عنك.
"الصدق ليس للخراف، مكيافيلي" همست وأنا أخذ نفسًا عميقًا لإنعاش رئتي "بل لمن يجرؤ على حمله حتى النهاية."
لاحظت أن النقاد، بل حتى الكتّاب ونخبة المثقفين العرب شنّوا هجومًا مؤخرًا على الأدب الرديء ورّواده، وحتى أنهم أعلنوا عن أسماء يرونها شخصيات رديئة في الساحة الأدبية العربية غير أن هذا الهجوم في جوهره يثير تساؤلات فلسفية تتجاوز مسألة الجودة إلى بحث أعمق عن المعايير التي تحكم الأدب عمومًا وقيمته في الوعي الجماعي.
وإذا تأملنا في طبيعة الأحكام النقدية، نجد أنها تتشكل ضمن سياقات ثقافية وزمنية معينة، وهذه الأنماط ليست معزولة عن المنظومات الفكرية والاجتماعية التي تنتجها.
ومهما وسعنا نظرنا سنجد أن وجود الأدب الرديء لازم أو حتمي، تمامًا محتمية وجود الأدب العظيم، والذي سيحدد هذه الفواصل هي ذائقة متغيرة تخضع لشروط بعينها، ويمكننا أن نستحضر أمثلة جمة على ذلك من تاريخ الأدب، حيث وُصِف بعض الكتاب العظماء في أزمانهم بأنهم سطحيون أو حتى فوضويون، ثم وبعد فترات طويلة تم إعادة تقيمهم في ضوء معايير جديدة تمامًا.
على سبيل المثال، مالارميه، شاعر ورائد الرمزية الفرنسية، أعتبر حينها شاعرًا صعب الفهم ومبهمًا حتى بين معاصريه، وربما ذلك لانه كما ذكرت كان ينتمي الى الحركة الرمزية في بداياتها قبلت بالرفض أو حتى سوء الفهم، خصوصًا من الجمهور العام والنقاد التقليديين. كذلك "فرانز كافكا" لم يتلقَ أي اعتراف أدبي إلا بعد وفاته، فكيف يمكننا الجزم اليوم بكل هذه الصرامة، بأن الحكم الحالي على بعض الأعمال الأدبية هو حكم نهائي لا رجعة فيه ؟
ومن زاوية أخرى يمكن القول إن الهجوم على الأدب الرديء قد يعكس أزمة أعمق في المشهد الثقافي العربي، وهي أزمة تتعلق بتصور المثقف لدوره وموقعه في المجتمع، وكما يبدو لي في بعض الحوانب إن الأمر ليس مجرد رفض جمالي بقدر ما هو تعبير عن إحباط أيديولوجي أو شعور بانحسار التأثير الثقافي أمام المد الجماهيري. وقد تكون "الرداءة" في بعض تجلياتها رد فعل على نخبوية متصلبة ظلت لعقود تعيد إنتاج ذاتها. ويمكننا إتخاذ الأدب السوداني مثالاً على ذلك.
إن خطورة الهجوم غير الممنهج على ما يسمى بالأدب الرديء تكمن في إمكانية تحوله إلى نوع من الإقصاء الثقافي، و الإبداع حتى في أكثر اشكاله هشاشة يظل تعبيرًا عن التجربة الإنسانية.
وإذا كنا بحاجة ملحة إلى محاربة الأدب الرديء فنحن بحاجة إلى فهمه وفهم أبعاده أولاً، وفهم إن كان ينبغي إقصاؤه فعلاً، أم الإعتراف به جزءًا من مسار الأدب الذي يعكس تحولات المجتمع.
في النهاية، تظل الرداءة في الأدب ظاهرة ضرورية بقدر ما هي مزعجة، وذلك لأنها تعيد تشكيل الحدود بين الإبداع والابتذال، وتدفعنا بشكل مستمر إلى اعادة تعريف ماهية الأدب ذاته.
يقولون إن الناس يصدقون ما يريدون تصديقه. عبارة اختزالية، مريحة سهلة الهضم، وتُقال بثقة كبيرة في كثير من الأحيان ولكأنها قانون ثابت. لكنها لم تكن مقتنعة بذلك تمامًا. كانت تجلس في مقهى نصف مضاء، وكانت ملامحها الهادئة تحمل شيء من الدماثة حينئذ، تتأمل بشرود دوامة صغيرة من الحليب وهي تختفي في سواد قهوتها. لو كان العقل مجرد وعاء يُسكب فيه ما نرغب بتصديقه فقط، فلماذا إذن تشعر هي أحيانًا بأن الحقيقة تتسلل إليها رغمًا عنها، بلا إذن، بلا مفاضلة، بلا خيار؟
تنهدت بخفة وهي ترهف سمعها نحو الضوضاء من خلفها، الحقيقة ليست قرارًا، بل موجة بطيئة تغمر كل شيء، تتشكل، تتشظى، تتقولب، تتكسر، لكنها لا تزول.
أما أولئك الذين يفرون منها، فيعيشون في الظلال، حيث كل شيء ضبابي، طري، ناعم الحواف، مجازي لا يحتاج إلى مواجهة مباشرة. فتجدهم يستجيرون خلف قصص حاكوها بأنفسهم.
ولكنهم على أي حال لا يشكلون أي خطر سوى على أنفسهم، ظاهرون للغاية، وجوههم مألوفة، أحاديثهم مكررة، خطواتهم خفيفة، كلماتهم محسوبة. لا يواجهون ثقل الحقيقة، لم تلمس جلودهم خشونتها ولا لسعاتها بعد، ومع الوقت وحين يختلط النقد باليقين، تبدأ عقولهم في التحلل والتعفن، مثل ورقة غار تُركت تحت المطر.
في الخارج، انعكست أضواء الشارع على الزجاج المهشم قرب الرصيف. الحقيقة، حين تُترك دون تدقيق ومعالجة، تصبح مثل ذلك الزجاج تعكس ما حولها، لكن بشكل مشوه ومضلل.
ربما يصدق الآخرون ما يريدون تصديقه، لكن فقط عندما يتخلى العقل عن سلطته الأخيرة: القدرة على الحكم.
يرتد صوت الآخرين فيها
كانت تحسبه لها…
غريبة، بعيدة،
مبعثرة في جوفِ المحطات الهلامية
وفي رأسها تشتعلُ حروب الابجدية.
تنسل من عقيدة اللغة
من جسدها المستعار،
من ضُروب المجاز.
كانت غارقة،
وحين بُعثت، انبثقت من الظلَّ
تنفض الغبارَ عن كتفيها،
عن القصيدةِ المحنطة في جبينها،
عن الدفاتر القديمة،
وعن اسمها العالق كالرمال في حنجرتها السقيمة.
من أين جاءت؟
وكيف جُسدت هكذا من رُفاتِ فكرة تغوص في الفراغ
تنبثق، وتتصاعد كالنور،
كالنهار.
ها هي ،
تحمل اسمها،
ولكأن له معنىً جديدًا.
تحفظ وجهها
ترسمه على الماء
فيهرول النهر بعيدًا، يحمل بظمأ نبأ الولادة الجديدة.
الوعي ليس حالة، ليس صفة، وليس جبلًا تتسلقه ثم تصل إلى قمته. بل الوعي، في جوهره، فوضى. وحركة شد وجذب مستمرة، وربما ولهذا السبب، نرى الفلاسفة والمفكرين أحيانًا يسقطون في هفوات غريبة، محيرة، تكاد تكون سخيفة لشدة بعدها عن الواقع أو تناقضها مع نفسها. إذ كيف يمكن لعقل مفكر، يفترض به أن يكون متماسكًا، أن ينتهي إلى مثل هذه السقطات؟
لكن قبل الخوض في ذلك، ما هو موضوع الوعي؟ هل له غاية كما يزعم البعض؟ وما الذي يجعل من خلاله الفكر ممكنًا ،للمعرفة أساس، وللأخلاق مبرر؟
إن الإنسان لا يعرف شيئًا قبل أن يدركه، لكنه أيضًا لا يدرك شيئًا قبل أن يعيه.وهذا قد يعني أن الوعي ليس مجرد مرحلة ثانوية، بل هو الأساس نفسه من هذا الجانب
ورغم ترددي، وعدم توصلي إلى إجابة نهائية، إلا أنني ومن موقفي الحالي، أقول إن الوعي هو ما يمنح الفكر قوته التركيبية، وهو ما يجعل العالم ممكنًا كمجال للمعرفة وحتى للتجربة الإنسانية. ولا أقصد أن الإنسان يعي لمجرد أنه يفكر أو يشعر بل لأنه يغوص في جوهر شيء أعقد، شيء لا ينفصل عن نفسه ولا تقاس حقيقته إلا بمعيار ذاتها، ويعيد تشكيل نفسه باستمرار في شبكة مترابطة من المعاني والتجارب.
ومع ذلك وبالعودة إلى النقطة الأولى ، فإن من المفارقات أن هذا الوعي، الذي يفترض أن يكون طريقنا إلى الفهم، هو نفسه ما يجعلنا نضيع في كثير من الأحيان، فهو وفي نهاية المطاف ليس حالة خلاص. تجد كل من حاول سبر أغواره انتهى عالقًا فيه. نيتشه، على سبيل المثال، أراد تحطيم الأوهام وادعاء القوة، لكنه في النهاية وقع في فخ أفكاره، محاصرًا بهذيانات العظمة، وكذلك شوبنهاور، الذي لم يرى في الحياة سوى شر وقباحة يجب تحملها، لم يدرك أنه كان، دون أن يشعر، يمنحها معنى حتى في رفضه وتشويهه لها.
كذلك الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، فقد كان مثالًا على كيف يمكن للفكر أن يتحول إلى سجن صاحبه. فهو أفضل من تحدث وتغنى عن الحرية في فلسفاته، وعن عقيدة الوجود الذي يتحدد من خلال الفعل، لكنه لم يكن قادرًا على تقبل أن يفكر الآخرون بحرية لا تناسبه. كان يرى نفسه فيلسوف الالتزام، لكنه لم يحتمل فكرة أن صديقه الأخر البرت كامو رفض الالتزام كما رآه هو.
ولم يكن النقاش بينهما مجرد خلاف فكري، بل كان إعلانًا عن أن سارتر، رغم كل تنظيراته عن الحرية، لم يكن مستعدًا لتقبلها عندما تأخذ شكلًا أخر لا يروق له. لأنه وفي نهاية المطاف الوعي ليس سوى فوضى. وليس حالة روحانية أو عقلية كما يظنها البعض.
هذا الفجر، رأيته من نافذة شرفتي... الشيطان.
لم يكن حزينًا،
ولا مصفدًا،
ولا حتى حيران.
ولم يكن ظلًا،
ولا نارًا،
ولا هذيانًا.
بلا قرون،
بلا قيود،
ولا كبريت
ولا دخان.
قبعة، وبدلة،
وحذاء مهترئ،
وعلى أطراف أصابعه
تتدلى سيجارة كوبية،
يشربها بترف
كأنه السلطان.
وحين التقت أعيننا، قال على عجل:
أتبنين بيتًا في وجه الطوفان؟
أتغرقين خوفًا من الخزلان؟
أتلاحقين السراب كأنه فيضان؟
أم تهربين من التيه… إلى التيه
لم أجبه،
ولم يُعِد السؤال
وغنى الصمتُ أغنية الكتمان.
ثم همس،
وهو يقلب في ذاكرته البعيدة، العتيقة:
لقد رأيت إيكاروس،
يعرف أن السقوط حتمي،
ومع ذلك، ارتفع،
لأن التحليق بلا سقوط... ليس طيران.
ورأيت المدن تسقط،
لا حين اقتحمها الغزاة بصحبة بتروكلوس،
بل حين فتحت أبوابها للحصان.
رحل،
وبقى صوته يتردد في الهواء:
ما أتعس الإنسان….
الأنانية كفضيلة
أحد صفات الجوهر الأساسية وهو "الكوناتوس" كما يصفه سبينوزا، وهو المجهود الذاتي لكل شيء ليبقى على حاله. وانطلاقًا من هذا المبدأ، ومع العزل الصارم للفهم التقليدي للأخلاق، يمكننا وصف الأنانية بكونها فضيلة لازمة لبقاء واكتمال سعي الإنسان - جزء لا يتجزأ من الطبيعة ونزعاتها - الذي هو ذاته محكومٌ بإحدى رغباته الأساسية، وهي تحقيق نفسه حسب فهمه لهذا العالم.
وكما أشرتُ أعلاه، فليس المقصود بالأنانية هنا الجشع والتعالي. بل المقصود هنا تأكيد الفرد بكونه فردًا، وتأكيد الجماعة بكونها مجموعة أفراد لكل منهم استقلاله. فلا محالة أن الإنسان يرى نفسه مركز العالم، بل حتى إن حدود وعيه لا تتجاوز وجوده الخاص. ومن هنا تنبع الأنانية المشار إليها، فيشعر الفرد بأن حاجاته ورغباته لها الأهمية القصوى، بينما تبدو حاجات الآخرين مجرد وقائع ثانوية أو عوائق محتملة في طريق تحقيق مصلحته.
ومع ذلك فلا ينبغي الخلط بين الأنانية التقليدية والأنانية المجردة، فإن الأولى مرتبطة بالطغيان، أما الثانية فمرتبطة بوفاء الفرد إلى نفسه.
إن الإنسان العاقل لا يسعى وراء اللذائذ المؤقتة التي ترضي رغبات عشوائية وعرضية، بل يسعى لطلب الخير الحقيقي، والذي حتى الآن يتجلى في فهم العالم واتساق أفعاله مع ضروراتها. ومن هذه الفكرة، فإن الأنانية لا تدخل ضمن تداعيات لا معنى لها. فليس كل ما تطلبه النفس يُجاب، وليس كل ما يُجاب قد تطلبه النفس. إنها تفاوتات يجب أن يعي لها المرء جيدًا حتى لا يرتمي في دوامة لن يخرج منها سليمًا.
في الختام إن الأنانية لا تتعارض مع الأخلاق إذا ما فُهمت من داخل هذا القالب. هي أحد الأسباب النبيلة التي تدفع المرء إلى الدفاع لأجل وجوده وبقائه. أن يقول: مرحبًا أيها العالم، أنا هنا، دون أي إخفاء للغير.
في يوم وليلة، هكذا هي المشاعر.
في يوم وليلة فقط، قد تفيض المشاعر أو تنحسر، قد تُبنى كالصرح أو تذوب كالسراب. هذه الفكرة تُثير في ذهني زوبعةً.
هل المشاعر لحظة سوء فهم مطوّلة، كما كان يزعمها دومًا؟ أم أنها، على العكس، نوع من الفهم العميق المجرّد بشكل مريع؟ عندما استيقظت صباح اليوم الأخير من سطوة المشاعر عليّ، شعرت بأنني شخص آخر. لا شيء قد تغيّر في العالم، ومع ذلك، كل شيء مختلف. بالأمس فقط، كنت أشعر بحب عميق تجاهه، تعلق بلا قرار، ولكن اليوم لم يعد هناك شيء ملموس لأتمسك به. مجرد صورة باهتة وأحساس طفيف بالذنب. لكن كيف يمكن لشيء أن يكون بهذه الهشاشة؟ كيف يمكن لشيء بدا وكأنه سرمدي أن ينهار بين ليلة وضحاها؟
حتى عندما خرجت إلى الشارع، كان الناس يسيرون في صمت، وكأنهم يعرفون سر هذا التبدّل، لكن لا أحد يبوح به. ربما يشعرون بالشيء ذاته، لكنهم مثلي لا يجرؤون على الاعتراف. لم أسعَ إلى فهم أي شيء، وعلى عكس عادتي، لم أبحث عن المعنى هنا ولم أفنّده حتى رغم استغرابي. لكنني سخرتُ—وكثيرًا—أي عبثٍ هذا الذي يدفع القلب إلى أن يبني قلاعًا في الصباح ثم يهدمها في المساء؟ بل أي معنى للإنسان نفسه إذا كانت مشاعره، التي يصرخ ملء فمه بأنها جزء من جوهره، بل جوهره كله، لا تصمد أمام الريح؟
في المساء، أُهمهم بلحن وأنا في منتصف غرفتي. ضجةٌ في كل مكان، داخل رأسي وخارجه.
قال لي جدّي ذات مرة: "الدنيا ما بتدي الحريف." سواء أكنتَ قد حاولت فهم مشاعرك أو تجاهلتها تمامًا، فإنها تبقى كما هي—حرة، عشوائية، غير مكترثة بمن يحاول تحليلها. لا شيء يغيّرها: لا الفكر، ولا المنطق، ولا حتى الزمن. إنها تحدث، ثم تنتهي، بلا سبب، بلا تفسير، بلا وعد بالبقاء.
لا شيء يدوم، ومع ذلك، كل شيء يستمر. تسللت هذه الفكرة إلى عقلي مرارًا، ولكأنها ترفض أن تُهمَل، شعرت بأنني ضئيلة لأول مرة عندما فكرت في الكون بهذا الشكل التجريدي، وأنني صغيرة جدًا في مواجهة هذه الأبعاد اللامتناهية.
وأعترف أن هذه الفكرة قد أربكتني في البداية. لكن مع مرور الوقت، اكتشفت أن هذا الاتساع لا يعني أنني بلا قيمة، بل يعني أنني جزء من شيء أكبر بكثير.
وفي خضم تأملاتي عن هذا العالم العظيم، عن كل ما فيه وما ليس فيه، تساءلت: هل هناك شيء في هذا الكون لم يحدث بعد؟ سؤال سخيف، أعرف ذلك، فأضحك بصوت خافت عليه بينما أراقب دعسوقة صغيرة تحاول تسلق سياج الحديقة. لعلها تظن أن العالم ليس أكثر من بضع شجيرات وجدار. وربما أنا أيضًا، بحماقتي البشرية، لا أرى من الكون إلا بقدر ما تراه هذه الحشرة المسكينة.
لكن لا بأس، فهناك الكثير من الحيوات لتعاش، الكثير من الضحكات لتُسمع، الكثير من أكواب القهوة لتُشرب، والقبل لتُمنح، والأحاديث لتُقال، والممرات لتُسلك، والأيادي لتُمسك، والأحضان لتُعطى، والقصائد لتكتب. وهناك أيضًا الكثير من الوجوه لتحفظ، والدموع لتذرف، والمحطات التي لا مفر من مغادرتها.
هناك خير في هذا العالم، أو لعله فيني أنا. لكنني هنا، ولأجل ذلك فقط، سأعيش هذا العالم بكامل الأنانية، لأنني في كل لحظة أدرك كم أنني صغيرة، وتجربتي مع الحياة بسيطة جدًا.
إن حياتنا ليست سوى لحظة بسيطة.
لذا دعنا نعيش هذه اللحظة كما هي، بما يتاح لنا. الخير ضئيل، نسبي، لن يغير شيئًا، لكنه يكفي ليصنع لنا سريرًا وكفنًا، حتى نحب ونموت بالطريقة التي نريد.
لكل جواد كبوة، وأعرف أنني لستُ استثناءً. ورغم كثرة كبواتي في الحيز الأخير إلا أنني أفهم أنها ليست هفوات بلادةٍ ولا ولوج عثرات. بل هي أشبه بتعديلٍ لا بد منه لمشيتي المتعرجة وتخفيف هوادة السرعة القصوى التي أعصف بها في ميادين التجارب فأمر بالشخوص والمواقف كما رياح تشرين دون فهم أو إفهام لتغير الطقس المفاجئ الذي طرأ. دون أن أتوقف قليلاً، أرثي حالي إن لزم الأمر، أشجبها أو حتى أتزلف إليها بعبارات الفردانية التي يتعذب منها كبدي. وذلك يبرر إيماني التام أن الثبات هو وجه منمق للدمار. موت بطيء حتى أن ثبوت العواطف بالنسبة لي ليس سوى عطبًا تركيبيًا في المشهد. ولذلك إني أخلو في جحري وانطوي هناك ولا أخرج حتى يتغير جلدي وينتزع اللون القديم عني.
حسب إدراكي الواضح لطباعي ووفقًا لتجربتي مع نفسي فأنني امتعض من الماضي بكافة أبعاده إلا أنني أحمل منه أقراصًا بعدد الرمال، أكره الفردانية الحديثة إلا أنني أشجب سبينوزا على تعطيلها. أهذي حتى أنسى وأتمنى لو أنني لم أفعل، أقفز ببراعة فوق أوجاع النفس التي تعييني مؤقتًا، ثم أنبذ هذه العقلانية الصماء.
لكل جواد كبوة، نعم، ولكن كبواتي هي نوع من الاستراحات ولحظات تحريك الأحداق للأسفل قليلاً وتأمل الأرضية الزلقة. وذرف الدموع على كل ما قد مضى، وما يهدد بالمضي أو كل ما هو قادم بالالاقي. لأنني ورغم جميع مقاومتي لا أستطيع أن أعيش، ولا أتعايش سوى في اللحظة الراهنة. هنا، والآن.